مقدمة:
إذا نظرنا إلى التاريخ بعين متفحصة، فلا يمكننا إلا أن ندرك أن هذا العالم لا يعرف سوى لغة واحدة، وهي لغة القوة. القوة هي التي تحكم العلاقات الدولية، وهي الأساس الذي بنيت عليه المدرسة الواقعية في السياسة الخارجية. وبينما ترفع الدول الكبرى، مثل الولايات المتحدة، شعارات مثل الحرية، الليبرالية، والديمقراطية، إلا أن الواقع يروي قصة أخرى، حقيقة القوة السياسية التي تختبئ وراء ستار الدعاية. العالم اليوم يعيش لحظة جديدة. نهضة الصين وعودة روسيا إلى المسرح العالمي وضعت نهاية لعصر الأحادية القطبية، لندخل في عالم متعدد الأقطاب. بينما تبني الأمم نفسها اقتصاديًا، لتصبح فيما بعد قوى عسكرية وتكنولوجية، يبقى عالمنا العربي غارقًا في الفوضى والتراجع. ولكن وسط هذا الظلام، هناك بصيص أمل. هذا الأمل يتجسد في المقاومة، المقاومة هي السبيل الوحيد لاستعادة كرامتنا واستعادة حقنا. علينا أن نتوقف عن الاستسلام للأصوات التي تقول إن الخنوع هو الحل. الخيانة ليست رأيًا، والوقوف ضد المقاومة هو خيانة لأمتك ولأجيالك القادمة. كن في الجانب الصحيح من التاريخ. فالحق لا ينتصر إلا بالقوة، وإذا لم نبنِ قوتنا، سنظل مستباحين للأمم الأخرى. إن الأمم لا تفهم إلا لغة القوة، ومن لا يمتلكها سيكون في موضع الضعيف الذي لا يُحترم ولا يُسمع. المقاومة هي طريق القوة، وطريق الحرية، وطريق المستقبل.
ما يحدث في غزة اليوم ليس مجرد نزاع بين حماس والصهاينة، بل هو فصل من فصول مخطط قديم يتجدد ويعاد تطبيقه على العالم العربي بأسره. القصة أعمق من مجرد قتال في شوارع غزة أو مقاومة لأهل فلسطين؛ إنها محاولة ممنهجة لإقامة كيان صهيوني مهيمن على منطقة مليئة بالدول الضعيفة والمفككة، التي تقف عاجزة، متناحرة فيما بينها، غير قادرة على التصدي لهذا المشروع.

فشل الأهداف المعلنة: مخطط التطهير الديمغرافي في غزة
منذ أواخر عام 2023، أطلق العدو الصهيوني حملة عسكرية ضد غزة، معلنًا أن الهدف الأساسي هو القضاء على قدرات حماس العسكرية وتأمين إطلاق الرهائن الذين تحتجزهم حماس. في الظاهر، بدت هذه الأهداف بسيطة ومباشرة، لكن مع استمرار الحرب ومرور الوقت، تبين أن العدو فشل في تحقيق هذه الأهداف. ما تروج له آلة الدعاية الصهيونية من نجاحات عسكرية يخالف الواقع الميداني تمامًا، حيث ظلت البنية التحتية العسكرية لحماس قائمة، وصواريخها تواصل الوصول إلى عمق الأراضي المحتلة، بينما ظل ملف الرهائن معلقًا دون حل. ومع هذه الإخفاقات المتكررة، بدأت تتضح ملامح مخطط خفي أكبر وأشمل من مجرد مواجهة عسكرية، وهو التطهير الديمغرافي وإعادة تشكيل التركيبة السكانية في غزة.
استراتيجية العدو: القصف المنهجي للبنية التحتية
خلال العام المنصرم، اعتمد العدو على القصف المنهجي للبنية التحتية المدنية في غزة، بما في ذلك شبكات الكهرباء والمياه والمستشفيات والمدارس. هذه الهجمات لم تهدف فقط إلى تعطيل الحياة اليومية في غزة، بل كانت جزءًا من مخطط أعمق. من خلال تدمير هذه البنى التحتية الحيوية، يسعى العدو إلى خلق بيئة غير قابلة للحياة في القطاع، مما يضطر السكان إلى التفكير في النزوح أو الهروب من تلك الظروف القاسية.
إن استمرار انقطاع الكهرباء والمياه يجعل الحياة اليومية في غزة شبه مستحيلة، حيث يعاني السكان من نقص في المياه النظيفة وانقطاع مستمر في الكهرباء، مما يؤدي إلى أزمة إنسانية خانقة. لا يمكن للسكان الاعتماد على الكهرباء لتشغيل الأجهزة الحيوية مثل المستشفيات، مما يعرض حياة الآلاف للخطر. كما أن القصف المستمر للمستشفيات والمدارس يهدف إلى تعطيل الخدمات الأساسية للسكان، مما يجعل من الصعب عليهم الحصول على الرعاية الصحية والتعليم، ويجبر الأطفال على ترك المدارس والانضمام إلى أزمة اللاجئين.
تدمير المنازل وتشريد العائلات: أداة للتفريغ القسري
لم يتوقف العدو عند استهداف البنية التحتية، بل ذهب أبعد من ذلك إلى تدمير المنازل وتشريد العائلات الفلسطينية. فكل قصف على حي سكني ليس مجرد عملية عسكرية، بل هو جزء من استراتيجية تهدف إلى إفراغ غزة من سكانها. الآلاف من العائلات تجد نفسها بلا مأوى، مشردة في مخيمات غير قادرة على توفير الحد الأدنى من الحياة الكريمة. هذا التشريد المنهجي يعزز أزمة إنسانية مستمرة، ويدفع الفلسطينيين إلى حافة اليأس، حيث يصبح النزوح والهجرة الحل الأخير المتاح لهم.
السيطرة على المعابر والممرات الاستراتيجية: خنق اقتصادي وإنساني
إلى جانب تدمير البنية التحتية، يسعى العدو إلى فرض عزلة جغرافية على قطاع غزة من خلال إنشاء ممرات استراتيجية مثل ممر نتساريم، الذي يفصل شمال غزة عن جنوبها. هذا الممر يمنع حماس من التنقل بين مناطق القطاع بسهولة، ويتيح لقوات العدو استهداف مناطق الشمال التي تحتوي على شبكات الأنفاق ومواقع إطلاق الصواريخ. من خلال فصل القطاع إلى مناطق معزولة، يتم دفع المدنيين نحو الجنوب الأكثر اكتظاظًا، مما يزيد من الضغوط الإنسانية عليهم، بينما تواصل قوات العدو استهداف الشمال بعمليات عسكرية مركزة.
السيطرة على معبر فيلادلفيا، وهو الشريط الحدودي بين غزة ومصر، يلعب دورًا مهمًا في خنق القطاع اقتصاديًا وإنسانيًا. هذا المعبر يُستخدم كأداة لمنع تدفق الإمدادات الغذائية والطبية إلى غزة، مما يعزز من أزمة التجويع في القطاع. يسعى العدو من خلال هذا الحصار إلى تجفيف مصادر الحياة في غزة، بحيث يصبح من المستحيل على السكان الاستمرار في الصمود.
سياسة التجويع: أداة للقهر والإذلال
يعتمد العدو أيضًا على سياسة التجويع كجزء أساسي من استراتيجيته لإضعاف المقاومة الفلسطينية. من خلال الحصار الطويل الأمد، يتحكم العدو في المعابر التجارية، مما يؤدي إلى نقص حاد في الطعام والوقود والأدوية. يعاني السكان في غزة من ارتفاع كبير في أسعار المواد الغذائية، بينما يعتمدون بشكل أساسي على المساعدات الإنسانية التي تكون غير كافية بسبب القيود الصارمة التي يفرضها العدو على دخول هذه المساعدات.
كما أن الاجتياحات البرية والقصف يهدفان إلى تدمير الأراضي الزراعية التي يعتمد عليها القطاع لتأمين احتياجاته الغذائية. هذا التدمير المنهجي يزيد من الاعتماد على الواردات التي تكون محدودة بسبب الحصار، مما يفاقم أزمة الجوع ويزيد من معاناة السكان.
استهداف المناطق الآمنة: المواصي كمثال
حتى المناطق الآمنة التي كانت تُعتبر ملاذًا للمدنيين، مثل منطقة المواصي، لم تسلم من القصف الإسرائيلي. يسعى العدو إلى جعل كل شبر من غزة غير آمن، بحيث لا يجد المدنيون أي مكان يلجأون إليه. هذا القصف المستمر للمناطق الآمنة هو جزء من استراتيجية تهدف إلى إجبار السكان على النزوح عبر خلق حالة من الرعب المستمر.
إعادة تشكيل ديمغرافيا غزة: الهدف الأبعد
كل هذه السياسات التي يعتمدها العدو ليست مجرد استراتيجية عسكرية، بل هي جزء من مخطط أكبر يهدف إلى إعادة تشكيل ديمغرافيا غزة. الهدف الحقيقي للعدو ليس فقط القضاء على حماس، بل تفريغ غزة من سكانها الفلسطينيين ونقلهم إلى مناطق أخرى، مثل سيناء. هذا المخطط يسعى إلى تغيير الخريطة السكانية في المنطقة، بحيث يتم تقليص الوجود الفلسطيني في غزة وتحويل القطاع إلى منطقة خالية من السكان، يمكن لإسرائيل التحكم بها بشكل كامل.
الخاتمة: المقاومة هي السبيل الوحيد للصمود
في مواجهة هذا المخطط الخبيث، يبقى الصمود والمقاومة السبيل الوحيد أمام الشعب الفلسطيني للحفاظ على أرضه وكرامته. غزة ليست مجرد منطقة جغرافية، بل هي رمز للصمود والإصرار على الحرية والكرامة في وجه الاحتلال. كل قنبلة تُسقط على غزة هي محاولة لإسكات صوت المقاومة، لكن كل صاروخ يُطلق من غزة هو إعلان للحرية ورسالة للعالم بأن الفلسطينيين لن يتخلوا عن أرضهم مهما كانت الظروف.
قد يسعى العدو إلى إعادة تشكيل ديمغرافيا غزة، لكنه لن يستطيع أن يمحو إرادة الشعب الفلسطيني الذي صمد لعقود في مواجهة القمع والاحتلال. المقاومة ليست خيارًا، بل هي ضرورة لمواجهة محاولات التطهير الديمغرافي، وهي السبيل الوحيد للحفاظ على الهوية الفلسطينية والأرض التي هي جزء لا يتجزأ من الكرامة العربية.
Comments